التصنيع الدوائي
ضمان الجودة عند المصريين القدماء

ضمان الجودة عند المصريين القدماء

بمناسبة افتتاح المتحف المصري الكبير، الذي يُعدّ تتويجاً لأكثر من سبعة آلاف عام من الإبداع الإنساني، ومنارةً تجمع بين أسرار الفراعنة وإشراقات العلم الحديث، نجد في قلب هذا الحدث العظيم فرصة ذهبية لنعيد النظر في تاريخ الجودة كمفهوم مصري أصيل، ليس في الفنون والعمارة فحسب، بل في علم الدواء الذي كان – ولا يزال – ركيزة من ركائز الحياة.

فمنذ أكثر من 4000 سنة، وتحديداً في عام 1550 ق.م، كتب المصريون القدماء أول نظام توثيق دوائي منظّم في بردية إيبرس (Ebers Papyrus)، وهي ليست مجرد وثيقة طبية، بل دليل جودة شامل يحتوي على أكثر من 800 وصفة علاجية، مسجّلة بدقة متناهية: المكونات، الكميات، الجرعات، طريقة التركيب، الاستخدام، وحتى الاحتياطات – وهي نفس المبادئ التي نجدها اليوم في Formulation، Dosage، Ingredients، وStability Studies.

وفي الوقت نفسه، قدمت بردية إدوين سميث (Edwin Smith Papyrus) – التي تُعدّ أقدم نص جراحي معروف في التاريخ – أول دليل إجراءات قياسية (SOP) في العالم، مبنياً على منهجية DOT (Diagnosis – Observation – Treatment – Documentation)،

حيث كان الجرّاح الفرعوني يُسجّل كل خطوة: التشخيص، الملاحظة، العلاج، ثم التوثيق الكامل للنتائج. هذا النظام لم يكن رفاهية، بل كان ضماناً للسلامة، وأساساً للتحسين المستمر – تماماً كما نفعل اليوم في Deviation Reports، Root Cause Analysis، وCAPA System.

اليوم، في مصانع الأدوية  الحديثة، نعيش نفس الروح:
كل دفعة إنتاج تُدقق كما كُتبت الوصفة على البردي.
كل انحراف (Deviation) يُسجّل، يُحلّل، يُصحَّح، ويُتحقق من فعاليته.
كل سجل دفعة (Batch Record) يخضع لـ Audit دقيق.

وكل موظف مدرّب على أن الجودة ليست إجراءً، بل ثقافة – ثقافة ترفض “trend” الإهمال، وتتبنى “mindset” التميّز.

فنظام GMP الذي نطبقه اليوم، وICH Q10 الذي نلتزم به، وProcess Validation الذي نثبت به كل خطوة، وRecord Keeping الذي نحفظ به كل تفصيل – كلها امتداد طبيعي لما بدأه أسلافنا على ضفاف النيل.

إن المهندس  في المصنع الذي يكتب تقرير CAPA، ليس سوى وريث شرعي للكاتب الفرعوني الذي نقش وصفة علاج على البردي.

إن افتتاح المتحف المصري الكبير ليس مجرد حدث ثقافي، بل تذكير حيّ بأن الجودة مصرية الهوية، متجذرة في التاريخ، متألقة في الحاضر، ومسؤولية على عاتق كل من يعمل في صناعة الدواء. فكما كان الدواء الفرعوني يُعدّ بعناية ليُشفي الجسد، يُصنع الدواء  اليوم بنفس الروح ليحمي الأجيال، مؤكداً أن الجودة ليست صدفة.. بل هي إرث، ووعي، وفخر وطني.