
تحول الهيئات التنظيمية الدوائية في دول مجلس التعاون: دروس معاصرة لتعزيز المنظومة السورية
شهدت دول مجلس التعاون الخليجي تطوراً سريعاً في سوق الأدوية خلال العقدين الأخيرين، حيث بلغ حجم السوق في 2024 حوالي 23.7 مليار دولار مع توقعات بنموه إلى نحو 49 مليار دولار بحلول عام 2033، بمعدل نمو سنوي مركب يبلغ حوالي 7.6%. ويعود هذا النمو إلى عوامل عدة منها الزيادة السكانية، وارتفاع معدلات الأمراض المزمنة، إضافة إلى توسع البرامج الصحية والتأمين الطبي الإلزامي في معظم دول المجلس. ويبرز في هذا السياق الدور المتنامي للأدوية الجنيسة، التي بدأت تحتل حصة أكبر في السوق الخليجي، مسجلة قيمة تبلغ 6.4 مليار دولار، ومن المتوقع أن تتضاعف خلال العقد القادم، ما يعكس التوجه نحو خفض تكاليف الرعاية الصحية دون المساومة على الجودة.
الهيئات التنظيمية ودورها في ضمان جودة الأدوية
تمتلك كل دولة من دول المجلس هيئة تنظيمية مستقلة تتولى الإشراف على سلامة وجودة الأدوية، مثل الهيئة العامة للغذاء والدواء في السعودية، وإدارة التسجيل والرقابة الدوائية في الإمارات، وغيرها من الهيئات في الكويت والبحرين وقطر وعمان. على الرغم من وجود بعض الاختلافات في الإجراءات التنظيمية، فإن هذه الهيئات تعمل بشكل متكامل عبر لجنة دوائية مركزية لمجلس التعاون، تضم ممثلين عن كل دولة، وتهدف إلى توحيد متطلبات التسجيل وتسريع عملية مراجعة الملفات. تعتمد هذه اللجنة نظام الملف التقني الموحد (CTD) الذي يضمن تقديم بيانات شاملة تشمل الجودة والفعالية والسلامة، مما يسهل دخول الأدوية إلى الأسواق الخليجية بطريقة منظمة وموحدة.
الجهود المحلية لدعم الصناعة الدوائية
شهدت دول المجلس خطوات فعالة لدعم الصناعة المحلية، حيث استثمرت السعودية بشكل كبير في تصنيع اللقاحات والأدوية البيولوجية ضمن رؤيتها 2030، فيما ركزت الإمارات على تطوير الحلول الرقمية المرتبطة بالتسجيل الرقمي وتتبع الأدوية. هذا الدعم الحكومي المكثف أسهم في جذب الشركات العالمية وتعزيز مكانة السوق الخليجي كوجهة مفضلة لتسويق وتطوير الأدوية. كما أدت هذه السياسات إلى تحسين تنافسية المنتجات المحلية مقابل المستوردات، خاصة في ظل ارتفاع أسعار الأدوية ذات العلامات التجارية المحمية ببراءات الاختراع.
دروس مستفادة لسوريا من التجربة الخليجية
في ظل التحديات التي تواجهها سوريا في تنظيم قطاعها الدوائي، يمكن الاستفادة من التجارب الخليجية في بناء نظام تنظيمي متين يعزز من جودة وسلامة الأدوية المتاحة للسوق المحلية. من الضروري تأسيس هيئة تنظيمية مستقلة وصارمة، تتبنى نموذج الملف التقني الموحد (CTD) لتسهيل مراجعة وتسجيل الأدوية، مع تطوير قدرات الكوادر الفنية في تقييم الملفات، والرقابة على المصانع، وإدارة أنظمة اليقظة الدوائية لضمان الكشف المبكر عن أي مشاكل تتعلق بسلامة الأدوية. كما يمكن اعتماد الحوافز التي تستخدمها دول الخليج لتعزيز الإنتاج المحلي للأدوية الجنيسة، مما يساهم في تقليل الاعتماد على الاستيراد وتوفير أدوية بأسعار مناسبة.
التحول الرقمي وتعزيز الشفافية
تلعب التكنولوجيا الرقمية دوراً محورياً في تطوير عمليات التسجيل والرقابة الدوائية، حيث قامت بعض دول مجلس التعاون بتطبيق أنظمة إلكترونية متقدمة لإدارة ملفات التسجيل، ومتابعة توزيع الأدوية، وتعزيز الشفافية في اتخاذ القرارات التنظيمية. وتطبيق مثل هذه الأنظمة في سوريا سيساعد على تسريع الإجراءات وتقليل الأخطاء، كما يعزز ثقة المستهلكين والمستثمرين على حد سواء. بالإضافة إلى ذلك، فإن الشفافية والكفاءة في العمليات التنظيمية تفتح المجال أمام استقطاب الاستثمارات الإقليمية والأجنبية، مما يدعم نمو القطاع الدوائي الوطني.
التجارب الإقليمية في الهيكلية التنظيمية للأدوية ودروس لتطوير النضج التنظيمي في القطاع الدوائي السوري:
تُعَدُّ المملكة العربية السعودية من الدول التي حققت مستوى متقدمًا في الهيكلية التنظيمية لتسجيل الأدوية، حيث تتميز الهيئة العامة للغذاء والدواء (SFDA) بنظام متكامل يدعم مراجعة الملفات الدوائية إلكترونيًا مع ضمان تطبيق معايير جودة وسلامة صارمة. وبالمثل، تعتمد قطر على إدارة الصيدلة ومراقبة الأدوية بنهج تنظيمي مركزي متطور، يركز على تسريع الإجراءات ورفع كفاءة عمليات التسجيل بما يتوافق مع معايير دول مجلس التعاون الخليجي. بالمقابل، تعكس التجربة المصرية مرحلة النضج التنظيمي الثالثة، والتي تتميز بوضع أطر تنظيمية واضحة، واستقلالية نسبية للهيئات الرقابية، وتطبيق عدد من العمليات والإجراءات القياسية، لكن مع حاجة مستمرة إلى تطوير البنية التحتية الرقمية وتعزيز التكامل بين الجهات المختلفة. وتُظهر التجربة السعودية والقطرية كيف يمكن للنظم الإلكترونية المتقدمة والتنظيم المركزي الفعّال أن يدعما تسريع تسجيل الأدوية وتحسين جودة المخرجات، وهو ما يشكل نموذجًا يمكن لمصر الاستفادة منه لتطوير نضجها التنظيمي والوصول إلى مراحل أعلى في هذا المسار من خلال تحسين التكامل والتحديث المستمر للإجراءات الرقمية والتنظيمية.
وبالنسبة للقطاع الدوائي السوري، فإن تحقيق درجات نضج أعلى في التنظيم الدوائي يتطلب اعتماد عدة توصيات استراتيجية. أولاً، يجب تطوير البنية التحتية الرقمية من خلال إنشاء نظام إلكتروني شامل لإدارة ملفات تسجيل الأدوية، يسهّل تبادل المعلومات ويُسرّع من عملية المراجعة والاعتماد. ثانياً، تعزيز الاستقلالية والكفاءة للهيئات التنظيمية عبر تدريب وتأهيل الكوادر الفنية والإدارية، وتبني سياسات واضحة للشفافية والمسؤولية. ثالثاً، تبني معايير جودة موحدة ومطابقة للمعايير الدولية مثل ICH وGCC، مما يعزز ثقة المستثمرين والمستهلكين على حد سواء. وأخيرًا، تشجيع التنسيق الإقليمي والدولي مع دول مجلس التعاون ودول ذات تجارب ناضجة، لتبادل الخبرات وتبني أفضل الممارسات، مما يسهم في تحديث الأطر التنظيمية ورفع مستوى الأداء القطاعي بما يخدم مصلحة المرضى والاقتصاد الوطني.
لتحقيق قفزة نوعية في نضج الهيكل التنظيمي للقطاع الدوائي السوري، بات من الضروري التحرك الجاد نحو تبني أفضل الممارسات الإقليمية والدولية، والبدء بتطوير البنية الرقمية والإجرائية وفق خارطة طريق واضحة. وفي هذا الإطار، ندعو الجهات الرقابية، وصناع القرار، والمؤسسات الدوائية إلى الاستفادة من خبرات الجهات الاستشارية المتخصصة. يمكنكم التواصل مع Be First للاستشارات للحصول على دعم عملي ومُخصّص في تصميم النظم التنظيمية، تطوير سياسات التسجيل، وتحقيق معايير النضج المؤسسي بما يتماشى مع التجارب الناجحة في المنطقة. الآن هو الوقت المناسب لاتخاذ خطوة فعلية نحو نظام دوائي أكثر كفاءة وجودة.
المصدر
https://www.ijpacr.com/files/21-07-2017/01.pdf